كشفت دراسة علمية حديثة أن منظومات النقل في الولايات المتحدة الأمريكية تخفق في تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ يواجه كبار السن وسكان المناطق الريفية ومحدودو الدخل والأشخاص ذوو الإعاقة والأسر التي لا تمتلك مركبات خاصة أكبر العقبات في الوصول إلى المرافق الخدمية اليومية عبر وسائل النقل العام أو السير على الأقدام.
النقل العام 🚌 وسائل النقل المشتركة كالحافلات والقطارات التي تديرها الجهات الحكومية.
القابلية للسير 🚶 مدى سهولة وأمان التنقل مشياً في منطقة معينة.
العدالة الاجتماعية ⚖️ الإنصاف في توزيع الفرص والخدمات عبر شرائح المجتمع.
الانحدار اللوجستي 📊 أسلوب إحصائي للتنبؤ باحتمالات وقوع حدث معين (مثل الوصول لمحل بقالة بالحافلة) بناء على عوامل مختلفة مثل العمر و الجنس و الدخل.
المرافق الغير المرتبطة بالعمل ⚕️ الوجهات اليومية كالمتاجر والمستشفيات والمتنزهات.
تصوّر أنك بحاجة إلى زيارة طبيبك، أو اقتناء مستلزماتك الأساسية من البقالة، أو حتى الاستمتاع بنزهة في حديقة عامة، لكنك تجد نفسك عاجزاً عن الوصول إلى وجهتك لأن خطوط الحافلات لا تخدم منطقتك، أو لأن الأرصفة غير مهيأة للسير الآمن، أو ببساطة لأنك لا تمتلك مركبة خاصة.
هذا هو الواقع اليومي الذي يعيشه ملايين المواطنين الأمريكيين.
إن النقل ليس مجرد عملية انتقال من موقع إلى آخر، بل هو البوابة الأساسية للنفاذ إلى الفرص الحياتية: فرص العمل، المؤسسات التعليمية، الخدمات الصحية، المرافق الترفيهية، والاحتياجات اليومية الضرورية. وحين لا يكون هذا النفاذ متكافئاً بين مختلف شرائح المجتمع، فإن العدالة الاجتماعية برمتها تتعرض للخطر.
من هذا المنطلق، جاءت دراسة علمية رائدة نُشرت مؤخراً في مجلة "Urban Science" المتخصصة، حيث قام فريق بحثي من جامعة نورث داكوتا الحكومية بإجراء تحليل معمق لقدرة المواطنين الأمريكيين على الوصول إلى ما يُعرف بـ"المرافق غير المرتبطة بالعمل" - والتي تشمل متاجر البقالة والمواد الغذائية، المنشآت الصحية، المحال التجارية، ومواقع الترفيه والتسلية - وذلك عبر استخدام وسائل النقل العام أو السير على الأقدام.
وقد خلصت الدراسة إلى نتيجة مقلقة: منظومة العدالة في النقل بالولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن تحقيق التوازن المطلوب. فلنستعرض معاً أبرز النتائج التي توصل إليها الباحثون.
اعتمد الفريق البحثي على بيانات مستمدة من "المسح الوطني لملاءمة المجتمعات المحلية - the 2017 National Community Livability Survey" الذي أُجري عام 2017، والذي جمع تصورات المواطنين حول إمكانية النفاذ إلى الخدمات في مجتمعاتهم. وقد قام الباحثون ببناء نماذج إحصائية متقدمة (نماذج الانحدار اللوجستي) لإجراء مقارنات شاملة بين المجموعات المحرومة والمجموعات المتميزة عبر مختلف الفئات الديموغرافية.
شملت الدراسة المجموعات المحرومة التالية:
كان الهدف الرئيسي من البحث واضحاً ومباشراً: هل تحصل هذه الفئات على فرص منصفة ومتكافئة للوصول إلى الوجهات الأساسية اليومية مقارنة بنظرائهم من الفئات الأكثر حظوة؟
كشفت نتائج الدراسة عن فجوات واضحة وصارخة في الإنصاف المتعلق بالنفاذ إلى النقل العام عبر الولايات المتحدة. وفيما يلي أبرز النتائج:
أظهرت البيانات أن كبار السن يواجهون أكبر التحديات في الوصول إلى المرافق الخدمية عبر وسائل النقل العام. ففي مقارنة مباشرة مع فئة الشباب (18-34 عاماً)، تبين أن الشباب أكثر قدرة بمعدل 2.7 مرة على الوصول إلى مراكز التسوق التجارية، وبمعدل يقارب 4 مرات للوصول إلى المنشآت الصحية عبر الحافلات العامة.
السبب وراء ذلك واضح: يواجه كبار السن تحديات صحية وجسدية متعددة، إضافة إلى قدرة محدودة على القيادة الذاتية، وانخفاض نسبة امتلاكهم للمركبات الخاصة. ورغم ذلك، فإن منظومات النقل العام لا تلبي احتياجاتهم الفعلية بشكل كافٍ.
إذا كنت من سكان المناطق الحضرية الكبرى، فأنت بلا شك أوفر حظاً: إذ تبلغ احتمالات وصولك إلى متاجر البقالة، المنشآت الصحية، أو المرافق الترفيهية عبر وسائل النقل العام ضعف ما هو متاح لسكان المناطق الريفية.
يواجه سكان الأرياف تحديات جوهرية تشمل: قلة عدد خطوط الحافلات، المسافات الطويلة بين المواقع، والتمويل الحكومي المحدود المخصص للنقل الريفي. ولذلك، يدعو الباحثون صانعي السياسات بإلحاح إلى جعل تحسين منظومات النقل الريفي أولوية قصوى لردم هذه الفجوة الخطيرة.
الأسر التي لا تمتلك أي مركبة خاصة تعتمد بشكل كبير ومباشر على وسائل النقل العام. وقد أظهرت الدراسة أن هذه الأسر لديها احتمالات أعلى بكثير لاستخدام وسائل النقل العام لتلبية احتياجاتها اليومية مقارنة بالأسر التي تمتلك مركبات متعددة.
هذه النتيجة تبرز الأهمية البالغة لوسائل النقل العام بالنسبة للأسر التي لا تمتلك سيارات، وتوضح كيف أن أي إضعاف أو تقليص لشبكات النقل العام يلحق ضرراً مباشراً وفورياً بهذه الفئة المجتمعية الضعيفة.
الأفراد المنخرطون ببرامج الرعاية الصحية الحكومية - وهم في الغالب من كبار السن محدودي الدخل أو الأشخاص ذوي الإعاقة - سجلوا احتمالات أقل للوصول إلى مواقع الترفيه والتسلية عبر وسائل النقل العام.
والأكثر إثارة للقلق: أن إمكانية وصول هذه الفئات إلى المستشفيات والمراكز الصحية عبر النقل العام لم تكن أفضل بشكل ملحوظ من الفئات الأخرى. وبالنسبة لشريحة سكانية تعتمد بشكل أساسي على الخدمات الصحية المنتظمة، فإن هذه النتيجة تمثل إشارة تحذير حمراء لا يمكن تجاهلها.
من النتائج المثيرة للاهتمام أن الرجال والنساء أظهروا احتمالات متقاربة للوصول إلى المرافق الخدمية عبر وسائل النقل العام. غير أن الاعتماد الأكبر للنساء على النقل العام - نتيجة مسؤولياتهن في رعاية الأسرة والقيام بالمهام المنزلية - يجعل قضية العدالة في النقل مصدر قلق حقيقي بالنسبة لهن.
لم يقتصر البحث على دراسة وسائل النقل العام فحسب، بل امتد ليشمل أيضاً تحليل إمكانية الوصول إلى المرافق عبر السير على الأقدام. فالمشي يمثل الوسيلة الأكثر اقتصادية والأكثر صداقة للبيئة في التنقل. لكن فجوات العدالة ظهرت بوضوح في هذا المجال أيضاً:
سجل كبار السن احتمالات أقل بكثير للوصول مشياً إلى متاجر البقالة، المنشآت الصحية، أو المواقع الترفيهية. ويعود ذلك إلى عوامل متعددة منها: الخوف من السقوط والإصابة، عدم أمان معابر المشاة، والمسافات الطويلة نسبياً التي تشكل عبئاً على قدراتهم الجسدية المحدودة.
أظهرت النتائج أن الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة كانوا أقل احتمالاً بشكل ملحوظ للوصول مشياً إلى المرافق الخدمية مقارنة بالأشخاص بدون احتياج. وهذا يؤكد الحاجة الماسة إلى توفير أرصفة ملائمة للكراسي المتحركة، منحدرات مناسبة، ومعابر مشاة أكثر أماناً وسهولة.
كانت النساء أقل ميلاً من الرجال للسير إلى المتاجر والمحال التجارية. وتشير الأبحاث ذات الصلة إلى أن المخاوف المتعلقة بالتحرش والجريمة والسلامة المرورية تؤثر بشكل كبير على أنماط تنقل النساء سيراً على الأقدام.
تماماً كما هو الحال مع النقل العام، سجل سكان المناطق الريفية إمكانيات وصول أضعف عبر المشي. فالتصاميم العمرانية المتمحورة حول استخدام السيارات الخاصة، إضافة إلى المسافات الطويلة بين الخدمات، تجعل المشي خياراً غير عملي أو حتى مستحيل.
على خلاف الفئات الديموغرافية الأخرى، لم يُظهر العامل العرقي فوارق كبيرة في النفاذ إلى النقل العام. والأكثر إثارة للدهشة: أن السكان من غير البيض سجلوا إمكانيات وصول أكثر إنصافاً عبر المشي إلى المرافق الخدمية مقارنة بالسكان البيض. ويرجح الباحثون أن الاختلافات الثقافية وخصائص الأحياء السكنية قد تفسر هذه النتيجة الغير المتوقعة.
ترسم الدراسة صورة واضحة وقاطعة:
الإنصاف في النقل العام يعاني من طابع تراجعي بالنسبة لكبار السن، والأفراد الذين لا يقودون، والمستفيدين من برامج الرعاية الصحية الحكومية، وسكان المناطق الريفية.
الإنصاف في إمكانية السير يعاني أيضاً من طابع تراجعي بالنسبة لكبار السن، والأشخاص الاحتياجات الخاصة، والنساء، والطلاب، والعاطلين عن العمل، وسكان الأرياف.
بعبارة أخرى أكثر وضوحاً: الفئات الاجتماعية التي تعتمد بشكل أكبر على وسائل النقل العام والسير على الأقدام هي بالضبط الفئات التي تواجه أعلى العقبات وأكبر التحديات في الوصول إلى حاجاتها الأساسية.
هذا التفاوت لا يقتصر تأثيره على التنقل فحسب، بل يمتد ليشمل النفاذ إلى الخدمات الصحية، الأمن الغذائي، فرص العمل، ونوعية الحياة بشكل عام. إن النقل ليس مجرد بنية تحتية من الخرسانة والفولاذ، بل هو شريان حياة حقيقي للمجتمعات.
لم يكتفِ الباحثون بتسليط الضوء على المشكلات والتحديات، بل قدموا أيضاً مجموعة من التوصيات والحلول المقترحة للمضي قدماً:
كثيراً ما يُنظر إلى النقل على أنه مجرد منظومة تقنية من الطرق والجسور والجداول الزمنية. لكن في حقيقة الأمر، يتعلق النقل في جوهره بالبشر والإنصاف والعدالة الاجتماعية.
هذا البحث العلمي يكشف بوضوح أن منظومتنا الحالية للنقل الحضري تحرم - بشكل غير مقصود - أولئك الذين يحتاجونها أكثر من غيرهم. كبار السن يكافحون للحصول على احتياجاتهم الغذائية، سكان الأرياف يعجزون عن الوصول إلى الرعاية الصحية بسهولة، الأشخاص ذوو الإعاقة يواجهون طرقاً غير آمنة للسير، ومحدودو الدخل معرضون لخطر الانقطاع عن الخدمات الأساسية.
بتبني مبادئ العدالة الاجتماعية كأساس محوري في تخطيط منظومات النقل، لا نبني فقط مدناً أكثر ذكاءً وكفاءة - بل نبني مجتمعات أكثر رحمة وإنسانية وإنصافاً للجميع.
المصدر:
Khan, M.A.; Godavarthy, R.; Mattson, J.; Motuba, D. Public Transit and Walk Access to Non-Work Amenities in the United States—A Social Equity Perspective. Urban Sci. 2025, 9, 392. https://doi.org/10.3390/urbansci9100392
من:
National University of Sciences and Technology (NUST), Pakistan; North Dakota State University.